فصل: بَابُ الْأَمْرِ بِالْيَدِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْأَمْرِ بِالْيَدِ:

(قَالَ) وَإِذَا جَعَلَ الرَّجُلُ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْخِيَارِ فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ إلَّا أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ لِأَمْرِهَا فَإِنَّمَا يُمَلِّكُهَا بِهَذَا اللَّفْظِ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيَصِحُّ مِنْهُ وَيَلْزَمُ حَتَّى لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ الرُّجُوعَ عَنْهُ اعْتِبَارًا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَإِنْ نَوَى بِالْأَمْرِ ثَلَاثًا كَانَ كَمَا نَوَى، حَتَّى إذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْوِيضٌ لِلْأَمْرِ إلَيْهَا وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ اخْتَارِي فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِالْفِعْلِ فَلَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْعُمُومِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الثَّلَاثَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ ثَلَاثٌ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ إذَا قَالَ نَوَيْت وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا بِهَذَا الْكَلَامِ جِنْسَ مَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ ثَلَاثٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّفْوِيضُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُونُ عَامًّا فَإِذَا نَوَى الْوَاحِدَةَ فَقَدْ قَصَدَ تَفْوِيضًا خَاصًّا وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا نِيَّةُ الْعَدَدِ وَهِيَ لَا تَسَعُ فِي هَذَا اللَّفْظِ فَتَكُونُ وَاحِدَةً بَائِنَةً.
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك ثُمَّ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَهِيَ بَائِنٌ بِتَطْلِيقَتَيْنِ وَالْأَلْفُ عَلَيْهَا لَازِمَةٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا جَوَابٌ لِلْإِيجَابَيْنِ جَمِيعًا وَأَحَدُهُمَا بِبَدَلٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَإِنَّمَا يَقَعَانِ مَعًا عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَيَلْزَمُهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِجُعْلٍ يُصَادِفُهَا وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ كَاَلَّتِي هِيَ بِغَيْرِ جُعْلٍ.
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ لَهَا أَمْرُك فِي يَدِك يَنْوِي ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يَنْوِي ثَلَاثًا فَقَبِلَتْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي بِالْخِيَارِ الْأَوَّلِ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهَا لَازِمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ قَدْ صَارَا أَمْرًا وَاحِدًا مَعْنَاهُ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا إلَّا الثَّلَاثَ وَاَلَّذِي أَوْجَبَهُ بِجُعْلٍ هُوَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ وَقَدْ قَبِلَتْ ذَلِكَ وَأَوْقَعَتْ فَيَلْزَمُهَا الْمَالُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ ذِكْرَهَا التَّرْتِيبَ لَغْوٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَبْقَى قَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي فَيَكُونُ جَوَابًا لِلْكَلَامَيْنِ وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّهَا بِالِاخْتِيَارِ أَوْقَعَتْ مَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ جُعْلٍ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ أَوْ قَالَ فِي الْيَوْمِ فَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَقَدْ بَطَلَ خِيَارُهَا وَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ شَيْئًا فَلَهَا الْخِيَارُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَذَكَرَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرْقًا بَيْنَ قَوْلِهِ الْيَوْمَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْيَوْمِ فَقَالَ إذَا قَالَ فِي الْيَوْمِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِهَا لِوُجُودِ حَرْفِ فِي فَإِنَّ الْمَظْرُوفَ قَدْ يَشْغَلُ جُزْءًا مِنْ الظَّرْفِ فَإِنَّمَا جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ فِي جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْيَوْمَ فَإِنَّ ذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِالْخِيَارِ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ ضَعِيفٌ وَالْمَقْصُودُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا تَوْقِيتُ الْخِيَارِ بِالْيَوْمِ.
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ جَعَلْت أَمْرَك بِيَدِك أَمْسِ فَلَمْ تَخْتَارِي شَيْئًا وَقَالَتْ هِيَ بَلْ قَدْ اخْتَرْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ وَتَدَّعِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِالتَّخْيِيرِ فَقَطْ وَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ مَا لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا.
(قَالَ) وَإِنْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ فَهُوَ بِيَدِهِ فِي مَجْلِسِهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ هَذَا التَّفْوِيضِ صِحَّةُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْهُمَا وَذَلِكَ يَكُونُ بِعِبَارَتِهِ وَالصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِهِ فَكَانَ كَالْبَالِغِ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ وَلَا يَبْطُلُ إلَّا بِقِيَامِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ مِنْ مَجْلِسِهِ.
(قَالَ) وَإِنْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِ رَجُلَيْنِ فَطَلَّقَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْأَمْرَ مِنْهُمَا فَأَحَدُهُمَا لَا يَسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمَا وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ فِي أَيْدِيهِمَا لِيُرَوِّيَا النَّظَرَ فِي أَمْرِهَا وَنَظَرُ الْوَاحِدِ لَا يَقُومُ مَقَامَ نَظَرِ الْمَثْنَى بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلِّقَاهَا؛ لِأَنَّهُ أَتَمَّ النَّظَرَ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَنَابَهُمَا مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الْعِبَارَةِ وَعِبَارَةُ الْوَاحِدِ وَالْمَثْنَى سَوَاءٌ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ أَمْرُك بِيَدِك يُرِيدُ اثْنَتَيْنِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا نِيَّةُ الْعُمُومِ فِي التَّفْوِيضِ فَالِاثْنَتَانِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حُرَّةً فَنِيَّةُ الِاثْنَتَيْنِ فِي حَقِّهَا نِيَّةُ الْعَدَدِ وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُ نِيَّةَ الْعَدَدِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْحُرَّةُ عِنْدَهُ فِي ثِنْتَيْنِ فَهَذَا فِي حَقِّهَا نِيَّةُ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّهُ بِأَصْلِ النِّكَاحِ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا فَلَا يَكُونُ هَذَا فِي حَقِّهَا إلَّا نِيَّةَ الْعَدَدِ فَلَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ فَهُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ إنْ رَدَّتْهُ الْيَوْمَ بَطَلَ كُلُّهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي التَّخْيِيرِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا إذَا رَدَّتْ الْيَوْمَ فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا غَدًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا.
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ فَهُمَا أَمْرَانِ حَتَّى إذَا رَدَّتْ الْيَوْمَ فَلَهَا الْخِيَارُ بَعْدَ الْغَدِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَمْرٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْيَوْمَ وَرَأْسَ الشَّهْرِ زُفَرُ يَقُولُ عَطَفَ أَحَدَ الْوَقْتَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ لَفْظِ الْأَمْرِ فَيَكُونُ أَمْرًا وَاحِدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ الْيَوْمَ وَغَدًا وَلَكِنَّا نَقُولُ أَحَدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُنَا غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْآخَرِ بَلْ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْأَمْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ الْوَقْتِ الثَّانِي امْتِدَادَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَاقْتَضَى ضَرُورَةَ إيجَابِ أَمْرٍ آخَرَ فَأَمَّا إذَا قَالَ وَغَدًا فَأَحَدُ الْوَقْتَيْنِ مُتَّصِلٌ بِالْوَقْتِ الْآخَرِ فَكَانَ ذِكْرُ الْغَدِ لِامْتِدَادِ حُكْمِ الْأَمْرِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ أَمْرٌ آخَرُ إذْ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ الظِّهَارِ:

اعْلَمْ بِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَرَّرَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ وَنَقَلَ حُكْمَهُ إلَى تَحْرِيمٍ مُؤَقَّتٍ بِالْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الْآيَةُ وَسَبَبُ نُزُولِهَا «قِصَّةُ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ فَإِنَّهَا قَالَتْ كُنْت تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سَاءَ خُلُقُهُ لِكِبَرِ سِنِّهِ فَرَاجَعْته فِي بَعْضِ مَا أَمَرَنِي بِهِ فَقَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيَّ وَرَاوَدَنِي عَنْ نَفْسِي فَقُلْت وَاَلَّذِي نَفْسُ خَوْلَةَ بِيَدِهِ لَا تَصِلُ إلَيَّ قَدْ قُلْت مَا قُلْتَ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي ذَلِكَ فَوَقَعَ عَلَيَّ فَدَفَعْته بِمَا تَدْفَعُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَقَدْ خَرَجْت إلَى بَعْضِ جِيرَانِي فَأَخَذْت ثِيَابًا وَلَبِسْتهَا فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَجَعَلَ يَقُولُ لِي: زَوْجُك وَابْنُ عَمِّك وَقَدْ كَبِرَ فَأَحْسِنِي إلَيْهِ فَجَعَلْت أَشْكُو إلَى اللَّهِ مَا أَرَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَغْشَاهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيك وَفِي زَوْجِك بَيَانًا وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا} إلَى آخِرِ آيَاتِ الظِّهَارِ ثُمَّ قَالَ مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً فَقُلْت لَا يَجِدُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرِيهِ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقُلْت هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرِيهِ فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقُلْت مَا عِنْدَهُ شَيْءٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا سَنُعِينُهُ بِفَرْقٍ وَقُلْت أَنَا أُعِينُهُ بِفَرْقٍ أَيْضًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْعَلِي وَاسْتَوْصِي بِهِ خَيْرًا».
ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ إمْسَاكٌ بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُرَادُ هُوَ السُّكُوتُ عَنْ طَلَاقِهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ وَقَالَ دَاوُد الْمُرَادُ تَكْرَارُ الظِّهَارِ حَتَّى إنَّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالظِّهَارِ مَرَّةً حَتَّى يُعِيدَ مَرَّةً أُخْرَى وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا لَكَانَ يَقُولُ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ حَدِيثُ أَوْسٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُكَرِّرْ الظِّهَارَ إنَّمَا عَزَمَ عَلَى الْجِمَاعِ وَقَدْ أَلْزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَفَّارَةَ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ «سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ كُنْت لَا أَصْبِرُ عَنْ الْجِمَاعِ فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي مَخَافَةَ أَنْ لَا أَصْبِرَ عَنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَظَاهَرْت مِنْهَا شَهْرَ رَمَضَانَ كُلِّهِ ثُمَّ لَمْ أَصْبِرْ فَوَاقَعْتهَا وَخَرَجْت إلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتهمْ بِذَلِكَ فَشَدَّدُوا الْأَمْرَ عَلَيَّ فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ بِذَاكَ فَقُلْت أَنَا بِذَاكَ وَهَا أَنَا بَيْنَ يَدِكَ فَأَمْضِ فِي حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتِقْ رَقَبَةً» الْحَدِيثَ كَمَا رَوَيْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْرَارُ الظِّهَارِ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ كَمَا سَكَتَ عَنْ طَلَاقِهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ فَقَدْ صَارَ مُمْسِكًا لَهَا فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أَنْ يَأْتِيَ بِضِدِّ مُوجَبِ كَلَامِهِ وَمُوجَبُ كَلَامِهِ التَّحْرِيمُ لَا إزَالَةُ الْمِلْكِ فَاسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ لَا تَكُونُ ضِدَّهُ بَلْ ضِدُّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ اسْتِحْلَالٌ وَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ عِنْدَنَا لَا تَتَقَرَّرُ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا حَتَّى لَوْ أَبَانَهَا بَعْدَ هَذَا أَوْ مَاتَتْ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعْنَى الْعُقُوبَةِ يَتَرَجَّحُ فِي الْكَفَّارَةِ فَتَجِبُ بِنَفْسِ الظِّهَارِ الَّذِي هُوَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ إلَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهَا بِأَنْ يَصِلَ الطَّلَاقَ بِكَلَامِهِ شَرْعًا فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ تَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَنَا فِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ، وَالْمَحْظُورُ الْمَحْضُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لَهَا وَإِنَّمَا سَبَبُهَا مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْعَزْمِ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ إمْسَاكٌ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى يَصِيرَ السَّبَبُ بِهِ مُتَرَدِّدًا وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْأَصْلَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الصِّيَامِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَمْ يَعُدْ حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ الْحَرَامَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا صَنَعَ كَفَّارَةٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُكَفِّرَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يَعُودَ حَتَّى يُكَفِّرَ» وَلَوْ جَامَعَهَا فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ بِالنَّهَارِ نَاسِيًا أَوْ بِاللَّيْلِ عَامِدًا فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ رَقَبَةٍ ثُمَّ جَامَعَهَا ثُمَّ أَعْتَقَ مَا بَقِيَ لَمْ يَجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْإِعْتَاقِ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَسِيسِ وَإِخْلَاؤُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الصَّوْمِ، وَالْعِتْقُ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ وَهَذَا التَّفْرِيعُ لَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَلَمَّا أَعْتَقَ بَعْضَهُ عَتَقَ كُلُّهُ وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْإِطْعَامِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ شَرْطُ التَّقْدِيمِ عَلَى الْمَسِيسِ وَلَا مُدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ» مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْإِعْتَاقِ أَوْ الصِّيَامِ فَتَصِيرُ كَفَّارَتُهُ بِذَلِكَ فَلَوْ وَطِئَهَا كَانَ قَدْ مَسَّهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ وَذَلِكَ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا ثُمَّ جَامَعَهَا لَا يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الطَّعَامِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِخْلَاءِ عَنْ الْمَسِيسِ مِنْ ضَرُورَةِ شَرْطِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْمَسِيسِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الْإِطْعَامِ وَثُبُوتُهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْإِطْعَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ.
(قَالَ) وَإِذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الظِّهَارَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ فَبِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا ظِهَارٌ وَاحِدٌ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ كَالْيَمِينِ وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقْرَبَكُنَّ ثُمَّ قَرِبَهُنَّ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ الظِّهَارُ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا بِالْكَفَّارَةِ فَإِذَا أَضَافَ إلَى مَحَالَّ مُخْتَلِفَةٍ يَثْبُتُ فِي كُلِّ مَحَلٍّ حُرْمَةٌ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ كَالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ لَمَّا كَانَتْ تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً بِزَوْجٍ فَإِذَا أَوْجَبَهَا فِي أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حُرْمَةٌ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِزَوْجٍ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ هُنَاكَ بِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحِنْثِ وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ النِّسَاءِ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
(قَالَ) وَإِذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الظِّهَارِ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَتَكْرَارِ الْيَمِينِ فَكَمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ فَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ كُلِّ ظِهَارٍ.
(فَإِنْ قِيلَ) فَإِذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ كَيْفَ تَثْبُتُ بِالظِّهَارِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ.
(قُلْنَا) بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الْمَحَلِّ فَيَتَحَقَّقُ الظِّهَارُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَأَسْبَابُ الْحُرْمَةِ تَجْتَمِعُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ لِإِحْرَامِهِ وَلِكَوْنِهِ فِي الْحَرَمِ وَالْخَمْرَ حَرَامٌ عَلَى الصَّائِمِ لِعَيْنِهَا وَلِصَوْمِهِ وَلِيَمِينِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُهَا وَالْكَفَّارَةُ الثَّانِيَةُ غَيْرُ كَفَّارَةِ الْأُولَى فَالْحُرْمَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحُكْمِ غَيْرُ الْأُولَى أَيْضًا وَإِنْ ظَاهَرَ مِنْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَنَوَى بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ تَكْرَارَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ صِفَةَ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الظِّهَارِ وَاحِدَةٌ وَالْكَلَامَ الْوَاحِدَ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ وَلَا يَجِبُ بِهِ إلَّا مَا يَجِبُ بِالْأَوَّلِ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ كَبَطْنِهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِأَنَّ بَطْنَ الْأُمِّ عَلَيْهِ فِي الْحُرْمَةِ كَظَهْرِهَا وَالظِّهَارُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنْ يُشَبِّهَ مَنْ هُوَ فِي أَقْصَى غَايَاتِ الْحِلِّ بِمَنْ هُوَ فِي أَقْصَى غَايَاتِ الْحُرْمَةِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ ذَكَرَ جُزْءًا مِنْ امْرَأَتِهِ شَائِعًا أَوْ عُضْوًا جَامِعًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ عُضْوًا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ الطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ إذَا شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ فَهَذَا وَالتَّشْبِيهُ بِظَهْرِ الْأُمِّ سَوَاءٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي إنَّهُ إذَا شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ قَدْ زَنَى بِأُمِّهَا أَوْ بِابْنَتِهَا فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَهُوَ مُظَاهِرٌ مِنْهَا لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ قَالَ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِحِلِّ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا لَا يَنْفُذُ عِنْدِي لِكَوْنِهِ بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ قَدْ لَاعَنَهَا لِأَنَّ اللِّعَانَ وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ عِنْدِي فَهُوَ مِمَّا يَسَعُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَيَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِخِلَافِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الْأُمِّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ إذَا شَبَّهَهَا بِظَهْرِ أُمِّ الْمَزْنِيِّ بِهَا لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِحِلِّ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إطْلَاقَ اسْمِ النِّكَاحِ عَلَى الْعَقْدِ وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ قَدْ لَمَسَ أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا مِنْ شَهْوَةٍ أَوْ نَظَرٍ إلَى فَرْجِهَا مِنْ شَهْوَةٍ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ حُرْمَةٌ ضَعِيفَةٌ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الْأُمِّ حَتَّى يَنْفُذَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِخِلَافِهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَلْعُونٌ مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا» فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الظِّهَارِ إذَا شَبَّهَهَا بِهِ وَإِنْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ ذَاتِ رَحِمٍ مِنْهُ غَيْرِ مَحْرَمٍ فَلَيْسَ بِمُظَاهِرٍ لِأَنَّهُ شَبَّهَ مُحَلَّلَةً بِمُحَلَّلَةٍ فَإِنَّ الْأُخْرَى تَحِلُّ لَهُ بِالْمِلْكِ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَكَذَلِكَ لَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ أَوْ قَرِيبٍ فَهُوَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَيْهِ وَمَسُّهُ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا.
(قَالَ) وَإِنْ ظَاهَرَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مُوجَبَهُ التَّحْرِيمُ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ كَالطَّلَاقِ وَلَيْسَ إلَى الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ لِلظِّهَارِ لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي جَانِبِهَا وَالْحِلُّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَقَالَ الْحَسَنُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّحْرِيمِ مِنْهَا زَوْجَهَا عَلَى نَفْسِهَا وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ يَمِينٌ فَتَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ حَلَفَتْ أَنْ لَا تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا ثُمَّ مَكَّنَتْهُ.
(قَالَ) وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُظَاهِرًا مِنْ أَمَتِهِ وَلَا مِنْ أُمِّ وَلَدِهِ وَلَا مِنْ مُدَبَّرَتِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ يَصِحُّ ظِهَارُهُ مِنْهُنَّ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ فِي مَحَلِّ مِلْكِ الْمُتْعَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ كَمِلْكِ النِّكَاحِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الظِّهَارُ وَهُوَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الزَّوْجَةَ دُونَ الْمَمْلُوكَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَقَلَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ إلَى التَّحْرِيمِ الْمُؤَقَّتِ بِالْكَفَّارَةِ وَالْمَمْلُوكَةُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلظِّهَارِ أَيْضًا وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إيلَاؤُهُ مِنْ الْأَمَةِ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ وَالْأَمَةُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الظِّهَارِ مِنْ الْأَمَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا وَهَذَا لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ لَا تَحِلُّ لَهُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا فَإِنَّمَا شَبَّهَ مُحَرَّمَةً بِمُحَرَّمَةٍ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَفَرْجِ أُمِّي أَوْ كَفَخِذِهَا كَانَ مُظَاهِرًا لِأَنَّ فَرْجَ الْأُمِّ وَفَخِذَهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ كَظَهْرِهَا فَيَتَحَقَّقُ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَلَوْ قَالَ كَيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَى يَدِهَا وَرِجْلِهَا وَلَا مَسُّهَا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ بِهَذَا اللَّفْظِ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَلَوْ قَالَ جَنْبُك أَوْ ظَهْرُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَدُك أَوْ رِجْلُك لِأَنَّ هَذَا الْعُضْوَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ عَادَةً؛ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ظُفْرُك مَكَانَ قَوْلِهِ ظَهْرُك وَهُوَ غَلَطٌ فَالظَّهْرُ مِنْ الْجَنْبِ أَلْيَقُ مِنْ الظُّفْرِ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي فَهَذَا كَلَامٌ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا لِأَنَّ الْكَافَ لِلتَّشْبِيهِ وَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْبِرَّ وَالْكَرَامَةَ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّ مَا نَوَاهُ مُحْتَمَلٌ وَمَعْنَاهُ أَنْتِ عِنْدِي فِي اسْتِحْقَاقِ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ كَأُمِّي وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ فَظِهَارٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِجَمِيعِ الْأُمِّ وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ كَانَ ظِهَارًا فَإِذَا شَبَّهَهَا بِجَمِيعِ الْأُمِّ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هُوَ ظِهَارٌ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْهُ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْأَمَالِي إذَا كَانَ هَذَا فِي حَالَةِ الْغَضَبِ وَقَالَ نَوَيْت بِهِ الْبِرَّ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ ظِهَارٌ وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إيلَاءٌ لِأَنَّ الْأُمَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فَكَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَثْبُتُ أَقَلُّ الْوُجُوهِ وَهُوَ الْإِيلَاءُ وَبِنَحْوِ هَذَا يَحْتَجُّ مُحَمَّدٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَكِنَّهُ يَقُولُ هُوَ ظِهَارٌ لِكَافِ التَّشْبِيهِ فِي كَلَامِهِ فَإِنَّ الظِّهَارَ يَخْتَصُّ بِهَذَا الْحَرْفِ وَمَتَى كَانَ مُرَادُهُ الْبِرَّ يَقُولُ أَنْتِ عِنْدِي كَأُمِّي وَلَا يَقُولُ عَلَيَّ إلَّا أَنَّهُ إذَا نَوَى الْبِرَّ أَقَمْنَا حَرْفَ عَلَى مُقَامَ عِنْدَ لِتَصْحِيحِ نِيَّتِهِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ بَقِيَ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَكَانَ ظِهَارًا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ كَلَامُ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ يَحِلُّ شَرْعًا لَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يَحْرُمُ شَرْعًا، وَالظِّهَارُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ.
تَوْضِيحُهُ: أَنَّهَا كَانَتْ مُحَلَّلَةً لَهُ وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْبِرِّ وَيَحْتَمِلُ مَعْنَى الظِّهَارِ وَلَكِنَّ الْحُرْمَةَ بِالشَّكِّ لَا تَثْبُتُ كَمَا لَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ (قَالَ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي فَقَدْ انْتَفَى احْتِمَالُ مَعْنَى الْبِرِّ هُنَا لِتَصْرِيحِهِ بِالْحُرْمَةِ فَبَقِيَ احْتِمَالُ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ فَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَكُونُ طَلَاقًا بِالنِّيَّةِ فَقَوْلُهُ كَأُمِّي لِتَأْكِيدِ تِلْكَ الْحُرْمَةِ فَلَا تَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ طَالِقًا بِالنِّيَّةِ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ التَّحْرِيمَ دُونَ الظِّهَارِ فَهُوَ طَلَاقٌ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إيلَاءً بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إذَا قَصَدَ بِهِ التَّحْرِيمَ فَقَطْ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا قُصِدَ التَّحْرِيمُ هُنَا لِزَوَالِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ حُرْمَةً تُنَافِي الْمِلْكَ وَزَوَالُ الْمِلْكِ بِالتَّحْرِيمِ يَكُونُ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا فِي الْحُرْمَةِ بِأُمِّهِ وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ كَانَ ظِهَارًا فَكَذَلِكَ إذَا شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ وَالْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ دُونَ الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ فَالْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ وَالْحُرْمَةُ بِالطَّلَاقِ تُزِيلُهُ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ ظِهَارٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ نَوَى الظِّهَارَ أَوْ الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ إنَّمَا كَانَ ظِهَارًا بِاعْتِبَارِ التَّشْبِيهِ فِي الْحُرْمَةِ فَالتَّصْرِيحُ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ يُؤَكِّدُ حُكْمَ الْكَلَامِ وَلَا يُغَيِّرُهُ وَهَذَا اللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ شَيْءٍ آخَرَ كَاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ لَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ شَيْءٍ آخَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ نَوَى الظِّهَارَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ ظِهَارٌ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ تَسَعُ فِيهِ نِيَّةُ الطَّلَاقِ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ كَظَهْرِ أُمِّي يَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّأْكِيدِ لِتِلْكَ الْحُرْمَةِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِنِيَّةِ الطَّلَاقِ وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا قَالَ نَوَيْت بِهِ الطَّلَاقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِنِيَّتِهِ وَيَكُونُ مُظَاهِرًا بِالتَّصْرِيحِ بِالظِّهَارِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ زَيْنَبُ طَالِقٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ فَقَالَ لِي امْرَأَةٌ أُخْرَى وَإِيَّاهَا عَنَيْت يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى تِلْكَ بِنِيَّتِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالظَّاهِرِ وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَوْ وَقَعَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِلَفْظِ الظِّهَارِ بَعْدَ مَا بَانَتْ وَالظِّهَارُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَا يَصِحُّ.
(فَإِنْ قِيلَ) الظِّهَارُ مَعَ الطَّلَاقِ اثْنَتَانِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ.
(قُلْنَا) اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ أَنَا مِنْك مُظَاهِرٌ فَهُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّ مُوجِبَ الظِّهَارِ هُوَ التَّحْرِيمُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ يَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحِلَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ لَفْظُ الظِّهَارِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ ظَاهَرْت مِنْك فَإِنَّ صِيغَةَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الظِّهَارِ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي الطَّلَاقِ.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ عِنْدِي وَمَعِي فَهُوَ ظِهَارٌ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ يَتَحَقَّقُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ.
(قَالَ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدَعَهُ يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُكَفِّرْ وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ الْحَرَامِ وَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالتَّكْفِيرِ وَتُخَاصِمَهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ بِالظِّهَارِ فَوَّتَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِمَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهَا بِالنِّكَاحِ وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى التَّكْفِيرِ عِنْدَ طَلَبِهَا لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ إلَّا بِهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُبَاشِرَهَا وَلَا يُقَبِّلَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ فِي مَعْنَى الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ إلَّا فِي حُكْمِ زَوَالِ الْمِلْكِ وَالِارْتِفَاعِ بِالْكَفَّارَةِ وَالْحُرْمَةُ مَتَى ثَبَتَتْ بِالطَّلَاقِ تُوجِبُ تَحْرِيمَ اللَّمْسِ وَالتَّقْبِيلِ فَكَذَلِكَ بِالظِّهَارِ.
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَةٍ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ الظِّهَارَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ فَيَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى الْمِلْكِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ.
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طَلَقَتْ وَبَطَلَ الظِّهَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الظِّهَارَ مَعْطُوفٌ عَلَى الطَّلَاقِ فَتَبِينُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُظَاهِرًا وَعِنْدَهُمَا يَقَعَانِ مَعًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ الطَّلَاقِ.
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَزِمَ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ جَمِيعًا لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّزْوِيجِ هُنَا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَعِنْدَ التَّزْوِيجِ يَقَعَانِ مَعًا.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا مِنْهَا لِأَنَّ مُوجِبَ الظِّهَارِ حُرْمَةٌ تَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ، وَبِالْبَيْنُونَةِ تَثْبُتُ حُرْمَةٌ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَظْهَرُ الضَّعِيفُ مَعَ الْقَوِيِّ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلُّ الظِّهَارِ لِأَنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لَهُ بِأَبْلَغِ جِهَاتِهِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْبَيْنُونَةِ.
وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ إلَّا عِنْدَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْمَحَلِّ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ فَإِذَا لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا مِنْهَا.
(قَالَ) وَإِذَا ظَاهَرَ الْمُسْلِمُ وَهُوَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ مِنْ زَوْجَتِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ أَوْ صَبِيَّةٌ أَوْ كِتَابِيَّةٌ فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَلِأَنَّ الْعَبْدَ كَالْحُرِّ فِي كَوْنِهِ أَهْلًا لِمُوجَبِ الظِّهَارِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالْكَفَّارَةِ وَالْأَمَةُ وَالصَّبِيَّةُ وَالْكِتَابِيَّةُ كَالْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ فِي كَوْنِهَا مُحَلَّلَةً بِأَبْلَغِ جِهَاتِهِ.
(قَالَ) وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ ذِمِّيًّا فَظِهَارُهُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ظِهَارُ الذِّمِّيِّ صَحِيحٌ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ بِالظِّهَارِ فِي مَعْنَى الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ فَكُلُّ مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ وَكَذَلِكَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ بِالصَّوْمِ وَبِهَذَا لَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ الظِّهَارِ كَالْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَكَانَ ظِهَارُهُ صَحِيحًا وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ فَإِنَّ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ عِنْدَهُ يَتَرَجَّحُ فِي الْكَفَّارَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ وَفِي الْحَدِّ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا» ثُمَّ يُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ فَهُوَ أَهْلٌ لِلْحُرْمَةِ فَيُعْتَبَرُ ظِهَارُهُ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ كَمَا اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إيلَاءَ الذِّمِّيِّ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ الْكَفَّارَةِ وَكَلَامُنَا فِي الْمَجُوسِيِّ يَتَّضِحُ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ الْحِلَّ فِي أُمِّهِ وَأُخْتِهِ فَإِنَّمَا شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمَنْ يَعْتَقِدُ الْحِلَّ فِيهَا بِالنِّكَاحِ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا كَالْمُسْلِمِ إذَا شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ.
(وَلَنَا) أَنَّ الذِّمِّيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ كَالصَّبِيِّ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَّارَةِ التَّكْفِيرُ وَالتَّطْهِيرُ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ الظِّهَارِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ الْخِزْيُ وَالنَّكَالُ وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ فِي حَقِّ مَنْ جَاءَ تَائِبًا مُسْتَسْلِمًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ كَمَا فَعَلَهُ مَاعِزٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ يَتَرَجَّحُ فِي الْكَفَّارَةِ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ عِبَادَةٍ وَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ وَيُفْتَى بِهِ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ كُرْهًا وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْعِبَادَةِ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَنَّ مُوجَبَ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالْكَفَّارَةِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ تِلْكَ الْحُرْمَةِ هُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْكَفَّارَةِ فَلَوْ صَحَّ ظِهَارُهُ لَثَبَتَتْ بِهِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ وَهَذَا لَيْسَ بِمُوجَبِ الظِّهَارِ وَبِهِ فَارَقَ حُرْمَةَ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ حُرْمَةٌ بِزَوَالِ الْمِلْكِ أَوْ بِانْعِدَامِ مَحَلِّ الْحِلِّ وَالْكَافِرُ مِنْ أَهْلِهِ وَبِهِ فَارَقَ الْعَبْدَ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ إلَّا أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ عَتَقَ وَأَصَابَ مَالًا كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْمَالِ وَبِهِ فَارَقَ الْإِيلَاءَ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْيَمِينِ تَكُونُ مُطْلَقَةً لَا مُؤَقَّتَةً بِالْكَفَّارَةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ.
(قَالَ) وَإِذَا ظَاهَرَ الْمُسْلِمُ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَا فَهُوَ عَلَى ظِهَارِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يُكَفِّرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَقَطَ الظِّهَارُ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الظِّهَارِ وَهُوَ بِالرِّدَّةِ قَدْ الْتَحَقَ بِالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ وَكَمَا لَا يَنْعَقِدُ الظِّهَارُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَبْقَى بَعْدَ انْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالظِّهَارِ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِالْكَفَّارَةِ وَبَعْدَ الرِّدَّةِ لَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ هَذِهِ الْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ فَلَوْ بَقِيَ إنَّمَا يَبْقَى حُرْمَةً مُطْلَقَةً وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبَ ظِهَارِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ ظِهَارُهُ قَدْ صَحَّ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالظِّهَارِ فِي مَعْنَى الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ الْمُسْلِمُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَكَذَلِكَ إذَا ظَاهَرَ مِنْهَا وَهَذَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى كُفْرِهِ بَلْ هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ فَيُمْكِنُ إبْقَاءُ الْحُرْمَةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِالْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَ إسْلَامِهِ تَوْضِيحُهُ: أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ لِيَتَقَرَّرَ مُوجِبًا وَعِنْدَ أَدَاءِ الْكَفَّارَةِ لِيَصِحَّ الْأَدَاءُ فَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْأَهْلِيَّةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جُنَّ بَعْدَ مَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ أَفَاقَ بَقِيَ ظِهَارُهُ حَتَّى يُكَفِّرَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ فِي رِدَّتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ جَازَ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ.
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ شِئْت فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَشَاءَتْ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهَا لَزِمَهُ الظِّهَارُ وَهَذَا وَالطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ (قَالَ) وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي الْيَوْمَ فَهُوَ كَمَا قَالَ لَا يَقْرَبُهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى يُكَفِّرَ فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ بَطَلَ الظِّهَارُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مُظَاهِرٌ أَبَدًا حَتَّى يُكَفِّرَ وَقَاسَ هَذَا بِالْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالطَّلَاقِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِالتَّوْقِيتِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مُوجَبُ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّوْقِيتِ كَالْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ وَحُرْمَةُ الْبَيْعِ إلَى الْفَرَاغِ مِنْ الْجُمُعَةِ وَحُرْمَةُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ إلَى أَنْ يَحِلَّ وَالْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ فَإِذَا احْتَمَلَ التَّوْقِيتَ صَحَّ تَوْقِيتُهُ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَالْحُرْمَةُ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ زَوَالِ الْمِلْكِ أَوْ لِانْعِدَامِ مَحَلِّ الْحِلِّ وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي شَهْرًا أَوْ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَيَسْقُطُ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ أَوْ قُدُومِ فُلَانٍ لِانْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ بِمُضِيِّ وَقْتِهَا.
(قَالَ) وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَبَانَتْ مِنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَتْ وَتَزَوَّجَتْهُ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ كَانَ الظِّهَارُ عَلَى حَالِهِ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّ ظِهَارَهُ قَدْ صَحَّ وَتَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ إلَى أَنْ يُكَفِّرَ فَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ تِلْكَ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحُرْمَةِ تَجْتَمِعُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَإِذَا بَقِيَتْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ (قَالَ) وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِالظِّهَارِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالطَّلَاقِ وَلَوْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِزَوْجٍ آخَرَ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ أَوْ هَذِهِ حُرْمَةٌ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ كَالْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالْحَائِضُ لَا تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَمَا لَا تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ كَالْأَوَّلِ وَمَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي.
(قَالَ) وَظِهَارُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ بَاطِلٌ كَطَلَاقِهِمَا لِأَنَّ مُوجَبَ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالْكَفَّارَةِ وَلَيْسَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمَا وَلَا مِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ بِالْقَوْلِ.
(قَالَ) وَظِهَارُ السَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ لَازِمٌ كَطَلَاقِهَا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَالسُّكْرَ لَا يُؤَثِّرُ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ بِالْقَوْلِ وَلَا فِي اكْتِسَابِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا (قَالَ) وَظِهَارُ الْأَخْرَسِ مِنْ امْرَأَتِهِ فِي كِتَابٍ أَوْ إشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ صَحِيحٌ كَطَلَاقِهِ لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِمُوجَبِ الظِّهَارِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى الْمُظَاهِرِ إيلَاءٌ وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا لَمْ يُجَامِعْهَا وَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْغَشَيَانِ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي حَقِّهَا بِالظِّهَارِ لِأَنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا شَرْعًا إلَّا بِالْكَفَّارَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا يُقَاسُ الْمَنْصُوصُ عَلَى الْمَنْصُوصِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا حُكْمَ الْإِيلَاءِ فِي الظِّهَارِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ الظِّهَارِ فِي الْإِيلَاءِ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي الظِّهَارِ مَعَ أَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْإِيلَاءِ فَإِنَّ التَّكْفِيرَ فِي الظِّهَارِ قَبْلَ الْجِمَاعِ وَفِي الْإِيلَاءِ بَعْدَهُ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُولِيًا إنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ وَإِنْ قَرِبَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ لَزِمَهُ الظِّهَارُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ قُرْبَانِهَا إلَّا بِظِهَارٍ يَلْزَمُهُ وَمَعْنَى الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ بِهَذَا يَتَحَقَّقُ فَكَانَ مُولِيًا مِنْهَا وَإِذَا بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَقَرِبَهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ.
(قَالَ) وَإِذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ هَذِهِ يَنْوِي الظِّهَارَ فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الثَّانِيَةَ بِالْأُولَى وَلِأَنَّ قَصْدَ التَّشْبِيهِ فِي حُكْمِ الظِّهَارِ وَهَذَا قَصْدٌ صَحِيحٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ فِي وَجْهٍ خَاصٍّ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ رَجُلٌ آخَرُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ امْرَأَةِ فُلَانٍ عَلَيْهِ يَنْوِي الظِّهَارَ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهَا أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الظِّهَارَ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ فِي حُكْمِ الْحِلِّ وَالْمِلْكِ أَوْ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا شَيْئًا بِدُونِ النِّيَّةِ.
(قَالَ) وَإِنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُك فِي ظِهَارِ فُلَانَةَ كَانَ مُظَاهِرًا أَيْضًا كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَقَدْ صَرَّحَ بِالظِّهَارِ فَكَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الظِّهَارِ وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا اتَّصَلَ بِالْكَلَامِ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» وَإِنْ قَالَ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَالْمَشِيئَةُ إلَى فُلَانٍ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهَا يُنَجَّزُ إذَا شَاءَتْ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهِ غَيْرَهَا.
(قَالَ) وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ عَلَى الْعَبْدِ الصَّوْمُ مَا لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ وَعَجْزُهُ أَبْيَنُ مِنْ عَجْزِ الْمُعْسِرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ فَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ وَلَيْسَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الصَّوْمِ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّ الْمَرْأَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ وَمَلَكَ مَالًا فَكَفَّارَتُهُ بِالْعِتْقِ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ كَانَ لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ لَزِمَهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْكَفَّارَاتِ حَالَةُ الْأَدَاءِ لَا حَالَةُ الْوُجُوبِ وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ الْمُعْتَبَرُ حَالَةُ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا كَمَا فِي الْحُدُودِ حَتَّى إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ عَبْدٌ ثُمَّ عَتَقَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ لَا حَدُّ الْأَحْرَارِ بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ وَعِنْدَنَا الْمُعْتَبَرُ حَالَةُ الْأَدَاءِ إلَّا أَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْعِتْقِ وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالْبَدَلِ وَحَدُّ الْعَبِيدِ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ حَدِّ الْأَحْرَارِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ لَيْسَ لِلْعَجْزِ فَبَدَنُ الْعَبْدِ يَحْتَمِلُ مِنْ الضَّرْبِ فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ بَدَنُ الْحُرِّ وَسَنُقَرِّرُ هَذَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَالَ) وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْهُ مَوْلَاهُ فِي رِقِّهِ أَوْ أَطْعَمَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ لَمْ يَجْزِهِ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَافٍ لِلْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ الْمَالَ بِتَمْلِيكِ الْمَوْلَى مَعَ قِيَامِ الْمُنَافِي فِيهِ فَإِنَّ الْمُتَنَافِيَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَبِدُونِ مِلْكِهِ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِعْتَاقُ عَنْهُ وَالْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ لَا تَسْقُطُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَا إطْعَامُهُ الْمَسَاكِينَ سَوَاءٌ بَاشَرَهُ الْمَوْلَى أَوْ الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى.
(قَالَ) حُرٌّ ظَاهِرٌ وَهُوَ مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ فَعَلَيْهِ الْعِتْقُ لِأَنَّ جَوَازَ تَكْفِيرِهِ بِالصَّوْمِ كَانَ لِلْعَجْزِ وَقَدْ زَالَ قَبْلَ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ فَالْتَحَقَ بِمَا لَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنْ أَعْسَرَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ فَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} الْآيَةَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.